فصل: الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ‏}‏

قوله ‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا‏}‏لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضا وذكر صفاتهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم، كماقال ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده‏}‏ ‏.‏ فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله ‏{‏أولئك كالأنعام بل هم أضل‏}‏ يعني في عدم الاعتبار؛ كما تقدم في الأعراف ‏.‏ وكأنه قال‏:‏ وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض، فحذف هم؛ كقولك‏:‏ زيد الأمير، أي زيد هو الأمير‏.‏ فـ ‏{‏الذين‏}‏خبر مبتدأ محذوف؛ قاله الأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر قوله في آخر السورة ‏{‏أولئك يجزون الغرفة بما صبروا‏}‏ وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها؛ قاله الزجاج‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون الخبر ‏{‏الذين يمشون على الأرض‏}‏‏.‏ و‏{‏يمشون‏}‏عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض؛ وهو معاشرة الناس وخلطتهم‏.‏

قوله ‏{‏هونا‏}‏الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار‏.‏ وفي التفسير‏:‏ يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد‏.‏ والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع‏)‏ وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب‏.‏ التقلع، رفع الرجل بقوة والتكفؤ‏:‏ الميل إلى سنن المشي وقصده‏.‏ والهون الرفق والوقار‏.‏ والذريع الواسع الخطا؛ أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه؛ خلاف مشية المختال، ويقصد سمته؛ وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة‏.‏ كما قال‏:‏ كأنما ينحط مكن صبب، قاله القاضي عياض‏.‏ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جبلة لا تكلفا‏.‏ قال الزهري‏:‏ سرعة المشي تذهب بهاء الوجه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار؛ والخير في التوسط‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ كنت أسأل عن تفسير قوله ‏{‏الذين يمشون على الأرض هونا‏}‏فما وجدت من ذلك شفاء، فرأيت في المنام من جاءني فقال لى‏:‏ هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض‏.‏ قال القشيري؛ وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك‏.‏ وقد قال الله ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور‏}‏ ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بالطاعة والمعروف والتواضع‏.‏ الحسن‏:‏ حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا‏.‏ وقيل‏:‏ لا يتكبرون على الناس‏.‏

قلت‏:‏ وهذه كلها معان متقاربة، ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه؛ جعلنا الله منهم بفضله ومنه‏.‏ وذهبت فرقة إلى أن ‏{‏هونا‏}‏مرتبط بقوله ‏{‏يمشون على الأرض‏}‏، أن المشي هو هون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه‏.‏ وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل؛ لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب‏.‏ وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الأمة‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من مشى منكم في طمع فليمش رويدا‏)‏ إنما أراد في عقد نفسه، ولم يرد المشي وحده‏.‏ ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط؛ حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم‏:‏

كلهم يمشي رويد كلهم يطلب صيد

قلت‏:‏ وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه‏.‏

تواضعت في العلياء والأصل كابر وحزت قصاب السبق بالهون في الأمر

سكون فلا خبث السريرة أصله وجل سكون الناس من عظم الكبر

قوله ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما‏}‏قال النحاس‏:‏ ليس ‏{‏سلاما‏}‏من التسليم إنما هو من التسلم؛ تقول العرب‏:‏ سلاما، أي تسلما منك، أي براءة منك‏.‏ منصوب على أحد أمرين‏:‏ يجوز أن يكون منصوبا بـ ‏{‏قالوا‏}‏، ويجوز أن يكون مصدرا؛ وهذا قول سيبويه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي أقوله‏:‏ إن ‏{‏قالوا‏}‏هو العامل في ‏{‏سلاما‏}‏لأن المعنى قالوا هذا اللفظ‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معنى ‏{‏سلاما‏}‏سدادا‏.‏ أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين‏.‏ فـ ‏{‏قالوا‏}‏على هذا التأويل عامل في قوله ‏{‏سلاما‏}‏على طريقة النحويين؛ وذلك أنه بمعنى قولا‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما؛ بهذا اللفظ‏.‏ أي سلمنا سلاما أو تسليما، ونحو هذا؛ فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين‏.‏

 مسألة‏:‏

هذه الآية كانت قبل آية السيف، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة‏.‏ وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه، وما تكلم فيه على نسخ سواه؛ رجح به أن المراد السلامة لا التسليم؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة‏.‏ والآية مكية فنسختها آية السيف‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية‏.‏ قال سيبويه‏:‏ لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله‏:‏ تسلما منكم، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم‏.‏ المبرد‏:‏ كان ينبغي أن يقال‏:‏ لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم‏.‏ محمد بن يزيد‏.‏ أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة‏.‏ ابن العربي‏:‏ لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم‏.‏ وقد أتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك‏.‏

قلت‏:‏ هذا القول أشبه بدلائل السنة‏.‏ وقد بينا في سورة مريم اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار، فلا حاجة إلى دعوى النسخ؛ والله أعلم‏.‏ وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثني الخليل قال‏:‏ أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا‏:‏ استووا‏.‏ وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال‏.‏ فقال لنا أعرابي إلى جنبه‏:‏ أمركم أن ترتفعوا‏.‏ قال الخليل‏:‏ هو من قول الله عز وجل ‏{‏ثم استوى إلى السماء وهي دخان‏}‏ فصعدنا إليه فقال‏:‏ هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير‏؟‏ فقلنا‏:‏ الساعة فارقنا‏.‏ فقال‏:‏ سلاما‏.‏ فلم ندر ما قال‏.‏ قال‏.‏ قال‏:‏ الأعرابي‏:‏ إنه سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر‏.‏ فقال الخليل‏:‏ هو من قول الله عز وجل ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي - وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة‏:‏ كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت‏؟‏ فكان يقول‏:‏ علي بن أبي طالب‏.‏ فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها‏.‏ فكنت أقول‏:‏ إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك‏.‏ فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه‏.‏ قال المأمون‏:‏ وبماذا جاوبك‏؟‏ قال‏:‏ فكان يقول لي سلاما‏.‏ قال الراوي‏:‏ فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت‏.‏ فنبه المأمون على الآية من حضره وقال‏:‏ هو والله يا عم علي بن أبي طالب، وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا‏.‏ وكانت رؤيا لا محالة صحيحة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏ والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما‏}‏قال الزجاج‏:‏ بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم‏.‏ قال زهير‏:‏

فبتنا قياما عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله

وأنشدوا في صفة الأولياء‏:‏

امنع جفونك أن تذوق مناما واذر الدموع على الخدود سجاما

واعلم بأنك ميت ومحاسب يا من على سخط الجليل أقاما

لله قوم أخلصوا في حبه فرضي بهم واختصهم خداما

قوم إذا جن الظلام عليهم باتوا هنالك سجدا وقياما

خمص البطون من التعفف ضمرا لا يعرفون سوى الحلال طعاما

وقال ابن عباس‏:‏ من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا وقائما‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 65 ‏:‏ 66 ‏)‏

‏{‏والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما، إنها ساءت مستقرا ومقاما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم‏}‏أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله‏.‏ ابن عباس‏:‏ يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم‏.‏ ‏{‏إن عذابها كان غراما‏}‏أي لازما دائما غير مفارق‏.‏ ومنه سمي الغريم لملازمته‏.‏ ويقال‏:‏ فلان مغرم بكذا أي لازم له مولع به‏.‏ وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

إن يعاقب يكن غراما وإن يعـــ ــط جزيلا فإنه لا يبالي

وقال الحسن‏:‏ قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الغرام أشد العذاب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الغرام الشر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الهلاك‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به، فأغرمهم ثمنها بإدخالهم النار‏.‏

قوله ‏{‏أي بئس المستقر وبئس المقام‏.‏ أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا‏}‏اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية‏.‏ فقال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار، ومن أنفق، في طاعة الله تعالى فهو القوام‏.‏ وقال ابن عاس‏:‏ من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر‏.‏ وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما‏.‏ وقال عون بن عبدالله‏:‏ الإسراف أن تنفق مال غيرك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال‏.‏ إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها؛ ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك‏.‏ ونعم ما قال إبراهيم النخعي‏:‏ هو الذي لا يجيع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف‏.‏ وقال يزيد بن أبي حبيب‏:‏ هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون طعاما للذة‏.‏ وقال يزيد أيضا في هذه الآية‏:‏ أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعيم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبر‏.‏ وقال عبدالملك بن مروان لعمر بن عبدالعزيز حين زوجه ابنته فاطمة‏:‏ ما نفقتك‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت‏)‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا‏.‏ كقوله ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقال آخر‏:‏

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل

وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعته إليه من حلاوة عاجل

وقال عمر لابنه عاصم‏:‏ يا بني، كل في نصف بطنك؛ ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم‏.‏ ولحاتم طي‏:‏

إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

قوله ‏{‏ولم يقتروا‏}‏قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما ‏{‏يقتروا‏}‏بفتح الياء وضم التاء، وهي قراءة حسنة؛ من قتر يقتر‏.‏ وهذا القياس في اللازم، مثل قعد يقعد‏.‏ وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء، وهي لغة معروفة حسنة‏.‏ وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم الياء وكسر - التاء‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ كلها لغات صحيحة‏.‏ النحاس‏:‏ وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، وإنما يقال‏:‏ اقتر إذا افتقر، كما قال عز وجل ‏{‏وعلى المقتر قدره‏}‏ وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعا‏.‏ وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق‏:‏ قتر يقتر ويقتر، وأقتر يقتر‏.‏ فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب متناولا، وأشهر وأعرف‏.‏ وقرأ أبو عمرو والناس ‏{‏قواما‏}‏بفتح القاف؛ يعني عدلا‏.‏ وقرأ حسان بن عبدالرحمن‏}‏قواما‏}‏بكسر القاف؛ أي مبلغا وسدادا وملاك حال‏.‏ والقوام بكسر القاف، ما يدوم عليه الأمر ويستقر‏.‏ وقيل‏:‏ هما لغتان بمعنى‏.‏ و‏{‏قواما‏}‏خبر كان، واسمها مقدر فيها، أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما؛ قال الفراء‏.‏ وله قول آخر يجعل ‏{‏بين‏}‏اسم كان وينصبها؛ لأن هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع‏.‏ قال النحاس‏:‏ ما أدري ما وجه هذا؛ لأن ‏{‏بينا‏}‏إذا كانت في موضع رفع رفعت؛ كما يقال‏:‏ بين عينيه أحمر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 68 ‏:‏ 69 ‏)‏

‏{‏ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ‏}‏

قوله ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان، وقتلهم النفس بوأد البنات؛ وغير ذلك من الظلم والاغتيال، والغارات، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحا‏.‏ وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني‏:‏ لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاختصاص، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها عنهم لأنهم أعلى وأشرف، فقال‏:‏ معناها لا يدعون الهوى إلها، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلا لها‏.‏ ومعنى ‏{‏إلا بالحق‏}‏أي إلا بسكين الصبر وسيف المجاهدة فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحا؛ بل بالضرورة فيكون كالنكاح‏.‏ قال شيخنا أبو العباس‏:‏ وهذا كلام رائق غير أنه عند السبر مائق‏.‏ وهي نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص الإضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفا لهم، ثم أعقبها بصفات التخلي تبعيدا لها؛ والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك الأمور ليست على ظاهرها ما ‏"‏روى مسلم من حديث عبدالله بن مسعود‏"‏ قال قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تدعو لله ندا وهو خلقك‏)‏ قال‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم‏)‏ قال‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تزاني حليلة جارك‏)‏ فأنزل الله تعالى تصديقها‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما‏}‏‏.‏ والأثام في كلام العرب العقاب، وبه قرأ ابن زيد وقتادة هذه الآية‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام

أي جزاء وعقوبة‏.‏ وقال عبدالله بن عمرو وعكرمة ومجاهد‏:‏ إن ‏{‏أثاما‏}‏واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لقيت المهالك في حربنا وبعد المهالك تلقى أثاما

وقال السدي‏:‏ جبل فيها‏.‏ قال‏:‏

وكان مقامنا ندعو عليهم بأبطح ذي المجاز له أثام

وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس‏:‏ أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا؛ فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة، فنزلت‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما‏}‏‏.‏ ونزل ‏}‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية، ‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا‏}‏نزلت في وحشي قاتل حمزة؛ قاله سعيد بن جبير وابن عباس‏.‏ وسيأتي في الزمر بيانه‏.‏ قوله ‏{‏إلا بالحق‏}‏أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان؛ على ما تقدم بيانه في الأنعام ‏.‏ ‏{‏ولا يزنون‏}‏فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين‏.‏ ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى؛ ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصنا أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن‏.‏

قوله ‏{‏يضاعف له العذاب‏}‏قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي يضاعف‏.‏ ويخلد جزما‏.‏ وقرأ ابن كثير‏}‏يضعف‏}‏بشد العين وطرح الألف وبالجزم في ‏{‏يضعف‏.‏ ويخلد‏}‏وقرأ طلحة بن سليمان‏}‏نضعف‏}‏بضم النون وكسر العين المشددة‏.‏ ‏{‏العذاب‏}‏نصب ‏{‏ويخلد‏}‏جزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة‏.‏ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر‏}‏يضاعف‏.‏ ويخلد‏}‏بالرفع فيهما على العطف والاستئناف‏.‏ وقرأ طلحة بن سليمان‏}‏وتخلد‏}‏بالتاء على معنى مخاطبة الكافر‏.‏ وروي عن أبي عمرو ‏{‏ويخلد‏}‏بضم الياء من تحت وفتح اللام‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهي غلط من جهة الرواية‏.‏ و‏{‏يضاعف‏}‏بالجزم بدل من ‏{‏يلق‏}‏الذي هو جزاء الشرط‏.‏ قال سيبويه‏:‏ مضاعفة العذاب لقي الأثام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

وقال آخر‏:‏

إن علي الله أن تبايعا تؤخذ كرها أو تجيء طائعا

وأما الرفع ففيه قولان‏:‏ أحدهما أن تقطعه مما قبله‏.‏ والآخر أن يكون محمولا على المعنى؛ كأن قائلا قال‏:‏ ما لقي الأثام‏؟‏ فقيل له‏:‏ يضاعف له العذاب‏.‏ ‏{‏مهانا‏}‏معناه ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما

قوله ‏{‏إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا‏}‏لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني‏.‏ واختلفوا في القاتل من المسلمين على ما تقدم بيانه في النساء ومضى في المائدة القول في جواز التراخي في الاستثناء في اليمين، وهو مذهب ابن عباس مستدلا بهذه الآية‏.‏

قوله ‏{‏فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات‏}‏قال النحاس‏:‏ من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع‏.‏ وقال مجاهد والضحاك‏:‏ أن يبدلهم الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن‏.‏ قال الحسن‏:‏ قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا؛ يبدلهم الله إيمانا من الشرك، وإخلاصا من الشك، وإحصانا من الفجور‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ليس بجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن بجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة‏.‏ و‏"‏روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن السيئات تبدل بحسنات‏)‏‏.‏ وروي معناه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وغيرهما‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل الله السيئات حسنات‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات‏)‏ فقيل‏:‏ ومن هم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات‏)‏‏.‏ رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الثعلبي والقشيري‏.‏ وقيل‏:‏ التبديل عبارة عن الغفران؛ أي يغفر الله لهم تلك السيئات لا أن يبدلها حسنات‏.‏

قلت‏:‏ فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ ‏(‏اتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا‏)‏ فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه‏.‏ وقال أبو طويل‏:‏ يا رسول الله، أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هل أسلمت‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبد الله ورسوله‏.‏ قال ‏(‏نعم‏.‏ تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وغدراتي وفجراتي يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ الله أكبر‏!‏ فما زال يكررها حتى توارى‏.‏ ذكره الثعلبي‏.‏ قال مبشر بن عبيد، وكان عالما بالنحو والعربية‏:‏ الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا‏.‏ والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا‏.‏ ‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏ ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ‏}‏

قوله ‏{‏ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا‏}‏لا يقال‏:‏ من قام فإنه يقوم؛ فكيف قال من تاب فإنه يتوب‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ المعنى من آمن من أهل مكة وهاجر ولم يكن قتل وزنى بل عمل صالحا وأدى الفرائض فإنه يتوب إلى الله متابا؛ أي فإني قدمتهم وفضلتهم على من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم واستحل المحارم‏.‏ وقال القفال‏:‏ يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذاقال ‏}‏إلا من تاب وآمن‏}‏ ثم عطف عليه من تاب من المسلمين واتبع توبته عملا صالحا فله حكم التائبين أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ أي من تاب بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة؛ بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابا، أي تاب حق التوبة وهي النصوح ولذا أكد بالمصدر‏.‏ فـ ‏{‏متابا‏}‏مصدر معناه التأكيد، كقوله ‏{‏وكلم الله موسى تكليما‏}‏ أي فإنه يتوب إلى الله حقا فيقبل الله توبته حقا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏ والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين لا يشهدون الزور‏}‏أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه‏.‏ والزور كل باطل زور وزخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد‏.‏ وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين‏.‏ عكرمة‏:‏ لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور‏.‏ مجاهد‏:‏ الغناء؛ وقاله محمد ابن الحنفية أيضا‏.‏ ابن جريج‏:‏ الكذب؛ وروي عن مجاهد‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي‏:‏ المعنى لا يشهدون بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ أما القول بأنه الكذب فصحيح، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع، وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد‏.‏

قلت‏:‏ من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ومخرجها عن الاعتدال، أو يثير كامنا من حب اللهو؛ مثل قول بعضهم‏:‏

ذهبي اللون تحسب من وجنتيه النار تقتدح

خوفوني من فضيحته ليته وافي وافتضح

لا سيما إذا اقترن بذلك شبابات وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع‏.‏ وأما من قال إنه شهادة الزور، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق‏.‏ وقال أكثر أهل العلم‏:‏ ولا تقبل له شهادة أبدا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه إذا كان غير مبرز فحسنت حال قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة الحج فتأمله هناك‏.‏

قوله ‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كراما‏}‏اللغو، وهو كل سقط من قول أو فعل؛ فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، وتدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إذا أوذوا صفحوا‏.‏ وروي عنه‏:‏ إذا ذكر النكاح كنوا عنه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ اللغو المعاصي كلها‏.‏ وهذا جامع‏.‏ و‏{‏كراما‏}‏معناه معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله‏.‏ أي مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل‏.‏ يقال تكرم فلان عما يشينه، أي تنزه وأكرم نفسه عنه‏.‏ وروي أن عبدالله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏لقد أصبح ابن أم عبد كريما‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ من المرور باللغو كريما أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏ والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ‏}‏

قوله ‏{‏والذين إذا ذكروا بآيات ربهم‏}‏أي إذا قرئ عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع‏.‏ ‏{‏لم يخروا عليها صما وعميانا‏}‏وليس ثم خرور؛ كما يقال‏:‏ قعد يبكي لسان وإن كان غير قاعد؛ قاله الطبري واختاره؛ قال ابن عطية‏:‏ وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة الكفار، وهي عبارة عن إعراضهم؛ وقرن ذلك بقولك‏:‏ قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر، فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا، وهو السقوط على غير نظام وترتيب؛ وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا لكن أصله على غير ترتيب‏.‏ وقيل‏:‏ أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجدا وبكيا، ولم يخروا عليها صما وعميانا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا‏.‏

قال بعضهم‏:‏ إن من سمع رجلا يقرأ سجدة يسجد معه؛ لأنه قد سمع آيات الله تتلى عليه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا لا يلزم إلا القارئ وحده، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة؛ وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس ليسمعه فليسجد معه، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه‏.‏ وقد مضى هذا في الأعراف ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 74 ‏:‏ 77 ‏)‏

‏{‏والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما، خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما، قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين‏}‏قال الضحاك‏:‏ أي مطيعين لك‏.‏ وفيه جواز الدعاء بالولد‏.‏ والذرية تكون واحدا وجمعا‏.‏ فكونها للواحد قوله ‏{‏رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏}‏‏{‏فهب لي من لدنك وليا‏}‏ وكونها للجمع ‏{‏ذرية ضعافا‏}‏ وقد مضى في البقرة اشتقاقها مستوفى‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن‏}‏وذرياتنا‏}‏وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى‏}‏وذريتنا‏}‏بالإفراد‏.‏ ‏{‏قرة أعين‏}‏نصب على المفعول، أي قرة أعين لنا‏.‏ وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس‏:‏ ‏(‏اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه‏)‏‏.‏ وذلك أن الإنسان إذا بورك له في مال وولده قرت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى؛ فذلك حين قرة العين، وسكون النفس‏.‏ ووحد ‏{‏قرة‏}‏لأنه مصدر؛ تقول‏:‏ قرت عينك قرة‏.‏ وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر وهو الأشهر‏.‏ والقر البرد؛ لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد‏.‏ وأيضا فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال‏:‏ أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فكم سخنت بالأمس عين قريرة وقرت عيون دمعها اليوم ساكب

قوله ‏{‏واجعلنا للمتقين إماما‏}‏أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة؛ وهذا هو قصد الداعي‏.‏ وفي الموطأ‏:‏ ‏(‏إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم‏)‏ فكان ابن عمر يقول في دعائه‏:‏ اللهم اجعلنا من أئمة المتقين‏.‏ وقال ‏{‏إماما‏}‏ولم يقل أئمة على الجمع؛ لأن الإمام مصدر‏.‏ يقال‏:‏ أم القوم فلان إماما؛ مثل الصيام والقيام‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أراد أئمة، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء، يعني أمراءنا‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير

أي أمراء‏.‏ وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول‏:‏ الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ اجعلنا أئمة هدى، كما قال ‏{‏وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا‏}‏ وقال مكحول‏:‏ اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون‏.‏ وقيل‏:‏ هذا من المقلوب؛ مجازه‏:‏ واجعل المتقين لنا إماما؛ وقال مجاهد‏.‏ والقول الأول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول، ويكون فيه دليل‏.‏ على أن طلب الرياسة في الدين ندب‏.‏ وإمام واحد يدل على جمع؛ لأنه مصدر كالقيام‏.‏ قال الأخفش‏:‏ الإمام جمع آم من أم يؤم جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام‏.‏

قوله ‏{‏أولئك يجزون الغرفة بما صبروا‏}‏‏{‏أولئك‏}‏خبر ‏{‏وعباد الرحمن‏}‏في قول الزجاج على ما تقدم، وهو أحسن ما قيل فيه‏.‏ وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي؛ وهي إحدى عشرة‏:‏ التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله‏.‏ و‏{‏الغرفة‏}‏الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا‏.‏ حكاه ابن شجره‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الغرفة الجنة‏.‏ ‏{‏بما صبروا‏}‏أي بصبرهم على أمر ربهم‏:‏ وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام‏.‏ وقال محمد بن علي بن الحسين‏}‏بما صبروا‏}‏على الفقر والفاقة في الدنيا‏.‏ وقال الضحاك‏}‏بما صبروا‏}‏عن الشهوات‏.‏ ‏{‏ويلقون فيها تحية وسلاما‏}‏قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف‏}‏ويلقون‏}‏مخففة، واختاره الفراء؛ قال لأن العرب تقول‏:‏ فلان يتلقى بالسلام وبالتحية وبالخير بالتاء، وقلما يقولون فلان يلقى السلامة‏.‏ وقرأ الباقون‏}‏ويلقون‏}‏واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله ‏{‏ولقاهم نضرة وسرورا‏}‏ ‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وما ذهب إليه الفراء واختاره غلط؛ لأنه يزعم أنها لو كانت ‏{‏يلقون‏}‏كانت في العربية بتحية وسلام، وقال كما يقال‏:‏ فلان يتلقى بالسلام وبالخير؛ فمن عجيب ما في هذا الباب أنه قال يتلقى والآية ‏{‏يلقون‏}‏والفرق بينهما بين‏:‏ لأنه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف الباء، فكيف يشبه هذا ذاك‏!‏ وأعجب من هذا أن في القرآن ‏{‏ولقاهم نضرة وسرورا‏}‏ولا يجوز أن يقرأ بغيره‏.‏ وهذا يبين أن الأولى على خلاف ما قال‏.‏ والتحية من الله والسلام من الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ التحية البقاء الدائم والملك العظيم؛ والأظهر أنهما بمعنى واحد، وأنهما من قبل الله تعالى؛ دليله قوله ‏{‏تحيتهم يوم يلقونه سلام‏}‏ وسيأتي‏.‏ ‏{‏خالدين‏}‏نصب على الحال ‏{‏فيها حسنت مستقرا ومقاما‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم‏}‏هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة‏.‏ يقال‏:‏ ما عبأت بفلان أي ما باليت به؛ أي ما كان له عندي وزن ولا قدر‏.‏ وأصل يعبأ من العبء وهو الثقل‏.‏ وقول الشاعر‏:‏

كأن بصدره وبجانبيه عبيرا بات يعبؤه عروس

أي يجعل بعضه على بعض‏.‏ فالعبء الحمل الثقيل، والجمع أعباء‏.‏ والعبء المصدر‏.‏ وما استفهامية؛ ظهر في أثناء كلام الزجاج، وصرح به الفراء‏.‏ وليس يبعد أن تكون نافية؛ لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام؛ كما قال ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ قال ابن الشجري‏:‏ وحقيقة القول عندي أن موضع ‏{‏ما‏}‏نصب؛ والتقدير‏:‏ أي عبء يعبأ بكم؛ أي أي مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم؛ أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى مفعوله؛ وهو اختصار الفراء‏.‏ وفاعله محذوف وجوابه لولا محذوف كما حذف في قوله ‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال‏}‏ تقديره‏:‏ لم يعبأ بكم‏.‏ ودليل هذا القول قوله ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ فالخطاب لجميع الناس؛ فكأنه قال لقريش منهم‏:‏ أي ما يبال الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت؛ وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله‏.‏ ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره‏.‏ ‏{‏فقد كذب الكافرون‏}‏ فالخطاب بما يعبأ لجميع الناس، ثم يقول لقريش‏:‏ فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزاما‏.‏ وقال النقاش وغيره‏:‏ المعنى؛ لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك‏.‏ بيانه ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين‏}‏ ونحو هذا‏.‏ وقيل ‏{‏ما يعبأ بكم‏}‏أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم ‏{‏لولا دعاؤكم‏}‏ معه الآلهة والشركاء‏.‏ بيانه‏}‏ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم‏}‏ ‏.‏ قال الضحاك‏.‏ وقال الوليد بن أبي الوليد‏:‏ بلغني فيها أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم‏.‏ و روى وهب بن منبه أنه كان في التوراة‏}‏يا ابن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شيء فأنا خير لك من كل شيء ‏.‏ قال ابن جني‏:‏ قرأ ابن الزبير وابن عباس ‏{‏فقد كذب الكافرون‏}‏ ‏.‏ قال الزهراوي والنحاس‏:‏ وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير؛ للتاء والميم في ‏{‏كذبتم‏}‏‏.‏ وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف‏.‏ الأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه؛ وجواب ‏{‏لولا‏}‏محذوف تقديره في هذا الوجه‏:‏ لم يعذبكم‏.‏ ونظير قوله‏:‏ لولا دعاؤكم آلهة قوله ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم‏}‏ ‏.‏ ‏{‏فقد كذبتم‏}‏أي كذبتم بما دعيتم إليه؛ هذا على القول الأول؛ وكذبتم بتوحيد الله على الثاني‏.‏ ‏{‏فسوف يكون لزاما‏}‏أي يكون تكذيبكم ملازما لكم‏.‏ والمعنى‏:‏ فسوف يكون جزاء التكذيب كماقال ‏{‏ووجدوا ما عملوا حاضرا‏}‏ أي جزاء ما عملوا وقوله ‏{‏فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏ أي جزاء ما كنتم تكفرون‏.‏ وحسن إضمار التكذيب لتقدم ذكر فعله؛ لأنك إذا ذكرت الفعل دل بلفظه على مصدره، كماقال ‏{‏ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم‏}‏ أي لكان الإيمان‏.‏ وقوله ‏{‏وإن تشكروا يرضه لكم‏}‏ أي يرضى الشكر‏.‏ ومثله كثير‏.‏ وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا ما نزل بهم يوم بدر، وهو قول عبدالله ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل وغيرهم‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عبدالله‏:‏ وقد مضت البطشة والدخان واللزام‏.‏ وسيأتي مبينا في سورة الدخان إن شاء الله تعالى‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو توعد بعذاب الآخرة‏.‏ وعن ابن مسعود أيضا‏:‏ اللزام التكذيب نفسه؛ أي لا يعطون التوبة منه؛ ذكره الزهراوي؛ فدخل في هذا يوم بدر وغيره من العذاب الذي يلزمونه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ لزاما فيصلا أي فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين‏.‏ والجمهور من القراء على كسر اللام؛ وأنشد أبو عبيدة لصخر‏:‏

فإما ينجوا من خسف أرض فقد لقيا حتوفهما لزاما

ولزاما وملازمة واحد‏.‏ وقال الطبري‏}‏لزاما‏}‏يعني عذابا دائما لازما، وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض؛ كقول أبي ذؤيب‏:‏

ففاجأه بعادية لزام كما يتفجر الحوض اللقيف

يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضا، وباللقيف المتساقط الحجارة المتهدم‏.‏ النحاس‏:‏ وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال سمعت قعنبا أبا السمال يقرأ‏}‏لزاما‏}‏بفتح اللام‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ يكون مصدر لزم والكسر أولى، يكون مثل قتال ومقاتلة، كما أجمعوا على الكسر في قوله عز وجل ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى‏}‏ ‏.‏ قال غيره‏:‏ اللزام بالكسر مصدر لازم لزاما مثل خاصم خصاما، واللزام بالفتح مصدر لزم مثل سلم سلاما أي سلامة؛ فاللزام بالفتح اللزوم، واللزام الملازمة، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل‏.‏ فاللزام وقع موقع ملازم، واللزام وقع موقع لازم‏.‏ كما قال ‏{‏قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا‏}‏ أي غائرا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وللفراء قول في اسم يكون؛ قال‏:‏ يكون مجهولا وهذا غلط؛ لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة، كما قال ‏{‏إنه من يتق ويصبر‏}‏ وكما حكى النحويون كان زيد منطلق يكون في كان مجهول ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول، التقدير‏:‏ كان الحديث؛ فأما أن يقال كان منطلقا، ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه‏.‏ وبالله التوفيق وهو المستعان والحمد لله رب العالمين‏.‏